أ- سؤال التنظير:
(1_1) تعتبر كل من رواية «لعنة الرحيل*» لمحمد العربي مشطاط، ورواية«بيت السوق» لمحمد اعويدات عملا فنيا يتسم بالمرونة والتجديد، إذ يمثلان نموذجا للكتابة المائية التي نفترض بأنها ستسود بعد أحداث الربيع العربي. ومن ثم، نتساءل عن علاقة الخطاب التنظيري بالممارسة الإبداعية؟
(1_2) يتساءل الأستاذ سعيد يقطين عن أي نص يريد المغاربة؟ ونتساءل بدورنا: هل ستشكل أحداث الربيع العربي لحظة إبداع كما شكلت هزيمة 1967؟
نعتقد بأن الربيع العربي سيشكل منطلقا لكتابات جديدة لم تكن سائدة من قبل، ومن ثم، ستتأسس كتابة تنساب مثل انسياب الماء، وهو ما ننعته بالكتابة المائية. وتفسح هذه الكتابة المسار للممكن الذي يكبر شيئا فشيئا إلى أن يلتحم بنسق أكبر منه، فيتأسس مسار أكبر وخاص في الآن نفسه. كما تقوم هذه الكتابة على تقنية تشتغل فيها دوائر انسيابية، ولكل دائرة طاقة، ومادة، ومعلومة. وتتفاعل داخل الدائرة الواحدة مجموعة من العناصر تنقاد نحو التنظيم الذاتي، ثم تتداخل مع بقية الدوائر في البنية المنطقية. وتنتقل الكتابة من نمط السببية الدورية إلى نمط الإمكان الذي ينساب ماؤه في كافة الاتجاهات، على خلاف الماء الذي ينساب من المنحدرات ويلتقي في نقطة معينة من مبدأ أن «التاريخ ليس عبقرية، إنه تدريب... وأماكن نائية تزورها وصور وتماثيل تشاهدها، ومقابر وحفريات تعيش داخلها. التاريخ ليس أفكارا تقال، إنه نبش قبور، نبش أسرار، تشريح جثت الموتى. تفاصيل. تفاصيل. تفاصيل» .
كما أنها كتابة - في اقتراحنا وليس من الأكيد - بدايتها ونهايتها غير محددتي المعالم مثل بداية ونهاية الربيع العربي؛ بمعنى أن مدخلاتها ومخرجاتها غير معروفة، حيث لا تؤشر على البداية أية مؤشرات، بل يجد القارئ نفسه في قلب الحدث، وفي معركته الساخنة التي لا يعرف لها نهاية مثل أحداث الربيع العربي. الشيء الذي يعني كتابة لا بداية ولا نهاية فيها، وفي قلبها تنفتح الأحداث مثل انفتاح أحداث الربيع العربي في شكل دوائر مائية حين يرمي أحد حجرا في بركة... الشيء الذي يجعل الكتابة «رمزا يعبر عن اللامحدود، وينفتح على تفاعلات وتفسيرات متجددة دوما» .
إضافة إلى ذلك، نشير إلى أن الأسباب لم تعد تسير دوريا بأن تؤثر دائرة في الأخرى لأن النتيجة لن تعطي أكثر من نفسها، وإنما تضيف الدوائر أنماطا غير متوقعة؛ لأن الدائرة خاصة، والدوائر عامة يشتغل نظامها بسرعة فائقة تنفي إمكان التنبؤ. ومن ثم، فكل نسق معرفي هو غير تام، ينفتح على نسق أكبر لكي لا يتشبع، فيموت حسب مبرهنة غودل .
بهذه المنطلقات النظرية يقدم الكاتبان، محمد العربي مشطاط ومحمد اعويدات، تصورا خاصا عن العمل الروائي الذي ينمو وفق حركة مائية تتراوح بين الفتور والهدير.
ب_ مقاربة تحليلية:
(2_1) يتطرق موضوع رواية لعنة الرحيل إلى حاضر شخصية الطاهر، ويسترجع ماضيه، إذ «جاء الطاهر إلى هذا العالم ليقتل أمه أثناء ولادته، وييتم أخته زينب، ويرمل أباه المفضل» (ص.37). لذلك، «تقرأ في محياه تلك الرغبة الجارفة لإضرام النار في كل هذا العالم شرقه وغربه... ولا شيء يخمد غليانه عدا رؤية هذا الكون كله دمار وخراب» (ص.6).
بعد ذلك، ربته الشخصية عائشة بعد تهجير أبيه المفضل ليشارك في الحرب العالمية الثانية، وتشاء الأقدار أن «يتعلق اليهودي (عازار) الذي حرم وزوجته (ماري) نعمة الإنجاب، بالطفل اليتيم» (ص.52). وحينما «أقفل عشر سنوات سكنت روح (للاعايشة) مثل سكون الزمن البارد» (ص.53).
عشية ذلك اليوم «توجه (عازار) نحو دير (حي التيجانية) قرب ساحة (السقاية الجديدة) ليحدث الحبر عن شأن الطفل الذي قرر هو وزوجته تبنيه» (ص.58). لكن «أي وطن قد يحبه يوسف: أرض مراكش، أم أرض الميعاد» (ص.102)...
وأثناء قتال الطاهر المغربي / يوسف اليهودي في صحراء سيناء التقى بأبيه المفضل (ص.148/149)... واستقال بعد هذا اللقاء من الجيش الإسرائيلي (ص.151) ليعود إلى وطنه الأصل (المغرب).
ويتابع الطاهر «دحرجة (كروسته)»، وينسى حبيبته سوزان الرسامة، (ص.183)، ليستسلم بعد ذلك في هدوء للموت (ص.196).
وتبرز رواية باب السوق حلول عيلول بمدينة المولى ادريس زرهون هربا من المحتل الإسباني. استضافه علال الحداد ببيته [ ص. 13] ليصبح بعد ذلك مساعده في ورشة الحدادة. وتسللت الأيام، وبدأ عيلول يحترف الحدادة شيئا فشيئا... واستعان علال بعيشة الكحلة لتساعده على التسلل من المدينة اتجاه مدينة تازة [ص.27]... ليفاجأ بأن أهله ماتوا جميعا بعدما هاجم الإسبان جبال الريف بالغاز السام.
تزوج عيلول من عيشة الكحلة، وكان ثمرة هذا الزواج ولادة فاطمة. ومات بعد ذلك عيلول، وتوجت فاطمة بالهادي الريفي الهارب من غاز الإسبان [ص.51]. وحل الهادي محل عيلول في إخضاع المتسلطين، والانتقام للوطن. ماتت عيشة الكحلة، وقبض على الهادي، ومات في السجن [56]. بقيت فاطمة وحيدة إلى أن تزوجت طالبا مخنشا وفد إلى المدينة من مولاي عبد السلام بن مشيش [ص.57].ورزقا بالتهامي الذي أصبح معلم حدادة، وتزوج من حدوهم بنت الفقيه الجباري... وتزوج التهامي سرا من حلومة...
(2_2) هذا هو الخط العام لأحداث الروايتين، وفيما يخص عملية السرد، فهي تتدفق مثل تدفق الماء في خطابي لعنة الرحيل وباب السوق:
(2-2-1) فيما يخص خطاب لعنة الرحيل، فيتدفق السرد كما يلي:
إن «المياه الراكدة سرعان ما تغدو مستنقعا... والجدول الرقراق وهو يمضي مهرولا في انسياب، تصفو مياهه وتطيب... وكذلك حال الناس والعبيد... » (ص. 24).
إنه حال الطاهر الذي يتغير مثل تغير أحوال الماء في الخطاب الروائي. وبعد ذلك تنهال «الأمطار بغزارة، وسيول عرمة من ماء الخير تتكالب منحدرة من (باب الفحص) نحو (باب تياترو). فالمدينة القديمة التي تؤول في مثل هذه الأوقات المطيرة إلى سواقي ومجاري ووديان هائجة، تحمل معها كل ما يعترض سبيلها من الشوائب والمتاع» (ص.51).
ومن ثم، فالشكل الأدبي ينساب ماؤه في كافة الاتجاهات، و«تدوي بروق خاطفة ورعود مزلزلة مذوية... وشظايا في الذاكرة تحمل هذا الطفل اليتيم» (ص.52)...
إذن، يتراوح السرد بين عمليتين: الركود والانسياب، وتنهال الأحداث ب«غزارة وسيول عرمة منحدرة في شكل سواني ومجاري ووديان هائجة». (ص.52).
ويكرر السارد هذه اللقطات في كل الوحدات السردية: «السماء صارخة برعود مذوية وبروق خاطفة، ملقية على الخلائق والكائنات أمطارا طوفانية لا تبقي ولا تذر» (ص.130). وبعد ذلك «بدأت السماء تطرد بعضا من سحبها الكثيفة، وعويل الرياح مازال يتقاسم الأركان والجنبات باحثا عن اللحن الذي يريد» (ص.131). وذلك بمثابة إعلان عن انفراج للأحداث... ويعود بعد ذلك «الطوفان من جديد في صباح محمل بالمياه ليعلن جنازة (السرجان المفضل)» (ص.168). و«كانت السيول تحمل كل ما يعترض سبيلها من الأشياء والمتاع» (ص.192)، وظلت «السماء تمطر وتبرق حتى أغرقت المدينة بمياه طوفانية حاملة» (ص.192) .
إنه إعلان عن تفاعل الأحداث داخل الدائرة الواحدة، وتنقاد نحو التنظيم الذاتي، ثم تتداخل مع بقية الدوائر في البنية المنطقية.
و«على حين غفلة، تعالت أصوات الأشباح مهللة:
الشتا فترت... الشتا فترت... » (ص.194). إنه إعلان عن موت الطاهر، حيث نقرأ:
«وبعدها شرع يرسم على لوح القبر بطبشورته البيضاء المعتادة، على إيقاع موسيقى الطبيعة ولحن الخلود، صورة الخوف والإقدام، معالم الموت والنور... قسمات أطلال وهياكل حياة نخرتها أيام التعب وليالي الاغتراب» (ص. 195).
إن عملية السرد تتدفق وتنساب في لقطات تمزج إيقاع الطبيعة والكتابة لتمنح أنماطا غير متوقعة؛ لأن الدائرة خاصة، والدوائر عامة يشتغل نظامها بسرعة فائقة تنفي إمكان التنبؤ. الشيء الذي يولد حركة تجعل الشكل ينمو متناسقا مع المضمون الأساسي.
(2-2-2) وفيما يخص خطاب باب السوق، فهو كذلك يتدفق مثل تدفق الماء، إذ يفتتح السرد كما يلي:
إن السقاية تنهمر، و«نظر إليها برهة وتفحص ماءها بعينه، لقد نال منه التعب والعطش وحرارة القيلولة لم يشعر إلا وفمه بالحنفية ارتوى» [ص.7]، بعد ذلك، وقف في مفترق الطرق، ليلج إلى باب يفضي إلى «نافورة رخامية كبيرة ينهمر الماء من جنباتها بغزارة يستأنس بخريره الزائر (...) اقترب من النافورة، شرب، توضأ، ودخل الجامع» [ص. 11]. في هذا السياق، تنفرج الأحداث، ويستحم عيول ويتناول وجبة العشاء في بيت علال... [ص. 22]. ووافق عيلول على الاشتغال في محل الحدادة مساعدا لعلال، ويتشرب الحرفة، ويعمل بالمثل القائل: «إيلا ما قطرات في الصباح تقطر في العشية» [ص. 26]. تبعا لذلك، فالرزق قطرة تتقاطر في الصباح، أو في الزوال.
وحينما اشتد المطر، وكانت الريح عاتية [ص.39] علم عيلول أن أهله ماتوا جميعا بقنابل الغاز السام. ومن ثم، فأحداث الخطاب الروائي تتدفق مثل تدفق الماء من جهة، وتشبه حرفة الحدادة من جهة ثانية: «يمسك القطعة الحديدية الحمراء عبر ملقاط طويل الفكين، ويتقن الضربات ويوجه الصانع أماه بهمزاته وحركاته الماهرة، ينهر نافخ الكير فيقفز في مكانه، تزيد النار اشتعالا، يلعلعها بقليل من بقايا الفحم البلدي ثم يضيف فوقه مقدار قبضته من الفحم الحجري، يصدح بصوته مهللا ثن يترنم مهاجما القطعة عند إخراجها من الفرن تتعالى الضربات ثم تنخفض قوتها شيئا فشيئا، يعالج عيوب الماصة يلمح بعينه النار وقد خمدت، يتحين الفرصة، فيستل قضيب الزيتون من المحرق يجلد بخفة ساقا نافخ الكير...» [ص. 100].
وباختصار، فإن العملين الروائيين «لعنة الرحيل» و«باب السوق» ابتدعا شكلا ومضمونا فنيا يلتقط لغته من الماء، وهو ما ننعته بالكتابة المائية، حيث تؤخذ التيمات حسب أمبرتو إيكو بمعناها الاستعاري لا بمعناها الحرفي .